حذّرت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسيّة المحافظة من خطورة استهداف الكيان الصهيوني للبنية التحتيّة ومنشأة الكيان الإرهابي الإيراني، ودافعت عن النظام الحاكم في طهران بطريقة غير مباشرة بذريعة غياب البديل وضعف المعارضة وشرذمتها وكذلك القوّة القمعيّة للنظام الإيراني، واعتبرت دفاع نتنياهو عن المعارضة الإيرانيّة مجرّد مضيعة للوقت.
صحيفة “لوفيغارو” تعدّ من أقدم الصحف الفرنسيّة وأشهرها وتعرف بتوجهاتها اليمينيّة أو الوسطيّة اليمينيّة، وبذلك لا يمكن اعتبار الصحيفة على أنها مستقلّة تماماً وبعيدة عن التوجهات الحكوميّة، خاصّة أنّ حكومة “إمانويل ماكرون” تجمع فيما بين اليمين واليسار، وعليه فأنّ التوجّه الإيديولوجي للصحيفة، يتوافق مع سياسات الحكومات الفرنسيّة، بما في ذلك الحكومة الحالية،رغم حفاظ “لوفيغارو” على استقلاليتها التحريريّة.
وبثّ راديو فرنسا الدولي مقال “باتريك سن”المنشور في صحيفة “لوفيغارو” وعنونه بـ “الأوهام الخطيرة لتغيير خارطة الشرق الأوسط”، علماً أنّ هذه المحطة قد تأسّست سنة 1975 بواسطة الحكومة الفرنسيّة، وفي سنة 1986 أصبحت تعمل تحت إشراف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، ممّا يعزّز فرضيّة أنّ ما نشرته “لوفيغارو”، يعكس الموقف الرسمي الفرنسي.
وفي مقالها المبطّن، دافعت “لوفيغارو” عن ضرورة وجود حزب الله الإيراني في لبنان، معلّلة ذلك بأنّ تدميره الكامل من شأنه أن يترك فراغاً لنموّ أحزاب شيعيّة متطرّفة وجرّ لبنان إلى حرب أهليّة، كما أنها (لوفيغارو) لم تخفي مخاوفها من إنهيار النظام الإرهابي الحاكم في طهران، مشيرة إلى أنّ الفراغ الذي سينجم عن ذلك، سوف يحرّض الشعوب ضمن ما تسمّى بجغرافية إيران، مع إمكانيّة تدخّل الدول المجاورة، ممّا سيؤدي إلى تأجيج الصراعات في المنطقة.
إنطلاق نظام الخميني من باريس
“لو لم يصل الخميني إلى باريس لربّما لم تتشكّل الجمهوريّة الإسلاميّة على الصورة التي تشكّلت عليها قط، فمن باريس تسنّى للخميني أن يُصبح شخصيّة عالميّة على وسائل الإعلام، ومنها عَبَرَت شهرته الآفاق، ومنها تمكّن من لقاء الصحفيين والمعارضين الإيرانيين وشخصيّات مثل المحامي والناشط الأمريكي والمسئول في الحكومة الاتحاديّة، ووزير العدل في عهد الرئيس الأمريكي ليندون بينز جونسون، وكذلك المبعوث الخاص لجيمي كارتر، الرئيس الأمريكي وقتها”.
كتب أعلاه “إسماعيل فردوسي بور” الذي رافق الخميني فترة وجوده بباريس، في إشارة منه إلى “أهميّة تلك الفترة كقاعدة صحيحة لقيادة الثورة” على حد وصفه، أمّا الخميني فأطلق تصريحاً عجيباً في إحدى خطاباته سنة 1979 قائلاً: “لم نخطّط للسفر إلى باريس قطّ، كانت هناك أمور خارجة عن إرادتنا”، والسؤال: إرادة من التي دفعت بالخميني إلى التوجّه نحو باريس، رغم إنها لم تكن خياره الأوّل؟
قضى الخميني أربعة أشهر في باريس، تحت حماية فرنسيّة مشدّدة، إلى أن نقلته فرنسا على طائرة البويينغ 747 التابعة لخطوطها الجويّة إلى طهران مطلع شهر فبراير عام 1979، ورغم الإدعاء بأنّ تلك الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، إلّا أنّ قبطان الطائرة ومساعده و11 مضيفاً وأربعة مضيفات، تطوّعوا لإيصال الخميني بأمان إلى طهران!
ومن الممكن فهم دوافع الخميني ومرافقيه وخوض مغامرة تلك الرحلة، كوهم متعطشون إلى استلام الحكم الدموي في بلد بحجم الكيان الإيراني، ولكن المثير للإستغراب هو تطوّع الطيّار ومساعده و15 مضيف ومضيفة فرنسيّون لمرافقة الخميني، رغم أنّ “الطائرة في خطر أكبر بكثير مما تتصوّرون، قد يطلقون النار علينا”، وذلك وفقاً لتصريحات صادق قطب زادة المقرّب من الخميني، ضمن الندوة الصحفيّة التي عقدها في الطائرة وبحضور 150 صحفي.
بعد استباب الحكم للخميني في طهران، توجّه إلى باريس شابور بختيار آخر رئيس وزراء تحت حكم محمد رضا بهلوي، فشكّل “جهة المقاومة الوطنيّة في إيران” (NAMIR) المعارضة لنظام الخميني وهذا ما أثار سخط الأخير ضدّه، فاغتاله على الأراضي الفرنسيّة سنة 1991 رغم أنه كان محاط بـ: 13 عنصر أمني فرنسي.
وإذا كان إيواء فرنسا صاحبة الدور الأكبر في تنصيب الخميني على سدّة الحكم في طهران، لأبرز معارضيه وهو شابور بختيار، يبدو مثيراً للإستغراب، فالأغرب من ذلك هو صمتها حيال انتهاك سيادتها على يد نظام الخميني، وعدم قطع علاقاتها الدبلوماسيّة والاقتصاديّة معه، ومن ثمّ الإفراج عن منفذيّ عمليّة الاغتيال وهُما “وكيلي راد” و”سرحدي”!
وقبل بختيار قتل الكيان الإيراني المعارض “عبد الرحمن برومند” بالسكاكين أمام مبناه السكني في باريس، وكان “برومند” رئيساً للجنة التنفيذية لحركة المقاومة الوطنيّة الإيرانية، و في سنة 1984 كان الكيان الإرهابي الإيراني قد نفّذ عمليّة اغتيال للواء “غلام علي أويسي” وشقيقه في باريس بالرصاص، وكان “أويسي” الحاكم العسكري لطهران في عهد محمد رضا بهلوي.
وفي عام 2018 اعتقل الأمن الفرنسي ثلاثة إرهابيين إيرانيين خطّطوا لتفجير أكبر تجمّع للمعارضة الإيرانية في باريس وقوامه أربعة آلاف شخص، وفي سبتمبر الماضي كشفت السلطات الفرنسيّة عن مخطط إرهابي إيراني كبير يهدف إلى تنفيذ سلسلة عمليات اغتيال وتفجير في كلاً من فرنسا وألمانيا، ناهيك عن العمليّة المُريبة واختطاف الكيان الإيراني للمعارض “رورح الله زم” صاحب قناة “آمد نيوز” التي غالباً ما كانت تتناول المسئولين والسلطات الإيرانيّة، فتمّ استدراجه من مقرّ إقامته بباريس إلى بغداد، ثم طهران.
ومن الطبيعي أنّ جميع هذا التجاوزات الإيرانيّة السافرة على السيادة الوطنيّة الفرنسيّة، تؤدّي إلى توتير العلاقات فيما بين الطرفين إلى حدّ القطيعة، بل ويحق لفرنسا محاكمة الكيان الإرهابي الإيراني أمام القضاء الدولي، إلّا أنّه لم يحصل شيء من هذا، بل كافأت فرنسا إيران بقوائم طويلة من الصفقات الاقتصاديّة، حتى أصبحت فرنسا سادس أكبر مورّد لإيران سنة 2005، كما أصبحت إيران ثالث أكبر عميل لفرنسا في الشرق الأوسط.
وشملت الصفقات الاقتصادية فيما بين طهران وباريس قطاع النفط، الطيران، السياحة، تصنيع السيارات، مستحضرات التجميل، المنتجات الصيدلانية والآلات وغيرها من القطاعات، والملفت أن غالبيّة الشركات الإيرانيّة التي تبرم الصفقات الإقتصادية مع فرنسا، فهي تابعة لمنظمة الحرس الثوري الإرهابية، وهذا ما أكدته صحيفة Challenges الفرنسية.
ووفقاً لتقرير سابق لموريل بينيكاود، المدير الأسبق للوكالة الفرنسيّة للاستثمارات الدوليّة، زار إيران مسؤولون من أكثر من 300 شركة فرنسيّة وأعرب أكثر من 2000 شركة عن اهتمامها العمل مع الشركاء الإيرانيين.
ويأتي هذا الانفجار التجاري فيما بين الطرفين، خلافاً لإرادة الشعب الفرنسي، وفقاً لإستطلاع أجرته شبكة البي بي سي العالميّة، فإنّ 7% فقط من الفرنسيين ينظرون إلى تأثير إيران بشكل إيجابي، في حين أنّ 82% منهم ينظرون إليها بشكل سلبي.
ولا يخفى التأثير الفرنسي الكبير على صناعة القرار في لبنان رغم استقلال الأخيرة منذ 81 عاماً من الاستعمار الفرنسي، إلّا أنّ لبنان لا زالت تعاني من الإنقسامات الطائفيّة التي كرّستها فرنسا خلال حقبة الاستعمار، ولا يستبعد من أن تكون فرنسا هي التي أطلقت يد الكيان الإيراني إلى التدخل في الشأن الداخلي اللبناني وتأسيس حزب الله وتقويض الدولة اللبنانيّة وتحكم الحزب على مفاصل الدولة اللبنانية.
وأبدت فرنسا شيء من التعنّت في الموقف حيال الحرب الصهيونية ضد حزب الله، قياساً بمواقف بقيّة الدول الأوروبيّة، إلى حدّ مطالبة باريس بوقف تصدير الأسلحة إلى تل أبيب، وردّة فعل نتنياهو تجاه الموقف الفرنسي وخطابه لإيمانويل ماكرون “بأننا سننتصر بك أو بدونك”. ويمكن تفسير الموقف الفرنسي بالمدافع عن إيران وكذلك استمرار بقاء حزب الله وضمان دوره في صنع القرار اللبناني.
وبلغ تذبذب المواقف الفرنسيّة تجاه إرهاب الكيان الإيراني إلى حدّ النفاق، ممّا يفسر لنا تحذير صحيفة “لوفيغارو” من إنهيار النظام الحاكم في طهران، وتبنّي “راديو فرنسا الدولي” التابع للخارجيّة الفرنسيّة لموقف الصحيفة.